الاثنين، 5 يونيو 2017

الراعي الشهيد



نعم أنا راع .. وألف نعـــم
كل ملكي شعب عظـــــــيم
وأرض أهيم بها .. وعلـــم
وإني بهذا أعيش فخــــورا
كما الصقر يفخر بين القمم
عامر بوترعة[1]


بعينين تستجديان الضياء لا تدركانه، وتجاعيد رسمت على الوجه الملفوح مسارات دهر من المعاناة، استقبلت الخالة زعرة نبأ مقتل خليفة كوميض لوهمِ سبْقِ رؤيةِ تلك المشهدية التراجيدية المفجعة. وكأنها من جديد أمام رأس مبروك يحملها فيديبيدس منذرا بالموت ومبشرا بالخلود.




اغتيال الراعي
أو قتل النبيين بغير حق

الباحث في الانثروبولوجيا الثقافية يجد للراعي مكانة مميزة لدى شعوب البدو والحاضرة على حد السواء. فهو ابن الطبيعة البار، ذلك الذي لا يهجر مناكبها ولا يرتقي السرير دونا عن أديمها وليس له في غير صفحة سمائها النيلية فرجة ومتعة. والراعي هو ذلك المتقن للغة عتيقة ما عاد غيره يتقنها، لسان صامت يخاطب به عزيف الريح في الفجاج فيحاورها وسوسة ودويا أو صرصرة. ويطوع النسيم في قصبته فيضيف الى سمفونية غايا مزموما يرافقه كورال الشياه كنداء لبرسفوني أن آن أوان العودة لأحضان ديميتر إيذانا بميلاد عنقاء الربيع.
ومن منظور علوم اللاهوت، وحتى ان اقتصرنا في طرحنا على الابراهيميات المتأخرة الثلاث، فالراعي يصور محاطا بهالة من الفضيلة كالتمثل الأسمى للخير، وقد يمنح النبوة مثلما قد يتصف بصفاته الإله. فنجد في الاستذكار نقل ابي هريرة لقول رسول الاسلام: "السكينة في أهل الغنم"[2]. وما السكينة في المنظومة الإيتيقية للإسلام إلا من الفضائل المستحبة. بذلك يصبغ الاسلام رعاة الأغنام (دونا عن الابل) بصبغة المشتملين عامة على شميلة السكينة، دلالة الحكمة والخلق الحسن. فلا يستغرب أن يكون مثل هكذا بشر من المشتملين على مثل هكذا خصال، من أوائل المبشَّرين، فلم يختر الإله في قصة الميلاد علماء ولا وجهاء ولا أصحاب مال ولا أصحاب ملك ليلقي إليهم بنبأ ميلاد المخلّص، وإنما اصطفى ثلاثة رعاة داخل مغارة في الهامش الجنوبي للسهل الذي يقع أسفل مدينة بيت لحم ليتجلى لهم ملاك الرب ويزف اليهم البشرى، "ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء، قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض، هلم بنا إلى بيت لحم فنرى ما حدث، ذلك الذي أخبرنا به الرب"[3]. وكان أول المهنئين لمريم وأول التبّع للمسيح، ثلاثة من الرعاة اليهود. ثم إن على عاتق الراعي – لما له من شمائل – مسؤولية كبرى، كضامن لسلامة الشياه وسيرها ضمن ما رسم لها من مسارات ورعيها من ما يباح لها من النبات. فاُلبس الأب ضمن النظام البطريركي لهذه الأديان، قلنسوة الراعي، سواء كان أب العائلة أو أب الدولة أو أب الكنيسة، فيقول البابا فرانسيس في عظة وداع الأسقف: "إنّ الراعي الحقيقي هو الذي يعرف كيف يودِّع كنيسته لأنّه يعرف جيّدًا أنّه ليس محور التاريخ بل رجل حرّ خدم بدون مساومات وبدون الاستيلاء على القطيع"[4]. وقد شمل الاسلام – لخصوصيّته – بهذه الصفة، النساء والعبيد. فيروي لنا ابن عمر عن رسول الإسلام قوله: "ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"[5]. ولنا في التاريخ السابق حتى للميلاد بألفين وتسعمائة سنة (2900 ق.م.) مثال في دوموزيد أحد ملوك سومر قبل الطوفان (قبل سلالة كيش الاولى) الذي اتصف بالراعي وألحق هذا اللقب باسمه كلقب ملكي رسمي خلال تربّعه على عرش باد تيبيرا. بل ونجد سلالة كاملة ممن وصفهم المؤرخون بالملوك الرعاة وهم الهكسوس، شعوب بدوية امتهنت الرعي، من أصول مختلطة ترجع في الغالب الى غرب آسيا قد احتلوا مصر الفرعونية قبيل سنة 1650 قبل الميلاد معلنين بذلك نهاية الاسرة الثالثة عشر وبداية الفترة الانتقالية المصرية الثانية. وللراعي إلى جانب شميلة السكينة طباع كالصبر على تريث الماشية في المسير والرعي واعتياد شظف العيش ودوام التأمل في الموجودات من حوله والتساؤل الدائم عن الكينونة والحرص على الشارد من القطيع وسوقه باللين تارة وبالعصى التي يتخذها متكأ وسلاحا طورا. وهي خصال ترشحه للنبوة فيقول المسيح للمرأة الكنعانية التي تشكوه جنون ابنتها: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت اسرائيل الضالة"[6]، في دلالة إلى كونه كرسول راع سيعيد من ظل عن قويم السبيل إلى الهدى كما يعيد الراعي الشارد من خرفانه إلى القطيع. ويذهب رسول الإسلام إلى القول: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم" ولما سأله أصحابه عن نفسه أجاب: "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"[7]. وكأن الرعي مرحلة وجوبية ليتصف المصطفى بمتطلّبات النبوّة. بذلك يتمظهر الراعي في مرتبة أسمى من العوام وإن كان لا يداني بعضهم علما ونسبا ومالا. وقد يصل سموّ صفة الراعي إلى اسدالها على الإله فيتغنى صاحب المزامير قائلا: "الرّب راعي، فلا يعوزني شيء"[8]. فيتبين إذن تدرّج صفة الراعي من الفاضل الى المبشًّر إلى المستخلَف حتى النبي أو الإله.
وما الجريمة بحق الراعي الشهيد خليفة السلطاني، إلا خاتمة الجرائم في حق الرعاة. وأولها كانت تلك التي بحق ابن آدم الذي عهد إليه برعاية الماشية بدليل ما أورده سفر التكوين: "ثم عادت فولدت أخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم"[9]. وهكذا لما ارتكبت الجريمة الأولى في تاريخ الانسانية كان الضحية هو الراعي. واحتدم بذلك الصراع بين صورة الشر المطلق في مواجهة الخير المطلق، الاول بالوعيد لرفض سنابله اليابسات وببسط اليد للقتل والثاني بتخيّر خيرة الدماء قربانا يطفئ ظمأ الآلهة وبالامتناع عن رد العداء. واليوم من جديد يقتل الراعي وسط غنمه بيد باذري الشوك، الجناة، جاني الجراح. كأن رحى الزمن أكملت دورة أخرى معيدة ذكرى تلك الجريمة الأولى التي يعتبرها عبد الباقي يوسف، جذر النزوع العدواني لدى الإنسان والتي يفهم منها دوافعه إلى مثل هكذا منزع[10].
جريمة أبكت رياح الفجاج التي ظلّت في عزيف مونودرامي ترجّع مغاور جبل المغيلة صداه نواحا، فانقلبت صرصرا تعصف بأقنعة الحملان تسقطها عن وجوه الذئاب. لأن "الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف، وأما الذي هو أجير وليس راعيا... فيرى الذئب مقبلا ويترك الخراف ويهرب"[11]. كذا يقام الفارق بين الراعي والمرتزقة ممن وضعت يد الغير دنانير في جيوبهم ليشتروا صولجان الرعاة ويسوسوا القطعان كما تشاء إرادة المؤجرين. ولما يفدي الراعي الخراف بحياته، يعودون عن إدبارهم ليقبّلوا جبهة زعرة بتؤدة مفتعلة مخافة ان تفلت اللقطة من عدسة كاميرا بروباغندا الصلافة والخيانة والنفاق.

الشهادة
أصول عنف مقدّس أم مدنّس؟

العنف هو كل ضرر يلحق بشخص ما سواء أكان هذا الضرر قد ألحقه هذا الشخص بنفسه أم ألحقه شخص آخر به أم ألحقه هو بشخص آخر[12]. وتختلف النظرة للعنف بين من يرجئه إلى الطبيعة البشريّة (هوبز) ومن يعتبره وليد الظرفية المعاشية والاجتماعية (روسو) ومن يبجله باعتباره امتيازا للأقوياء أمام خدعة القانون التي ابتدعها الضعفاء (نيتشه). غير أن الأقرب إلينا موقف باسكال الذي يعتبر أن العنف "لا يستطيع أن يضعف الحقيقة، بل هو لا ينجح إلا في إبرازها أكثر، ولا يستطيع نور الحقيقة أن يضع حدا للعنف، بل هو يثيره أكثر فأكثر".
حسب سيد القمني[13]، كانت لدى الشعوب القديمة احتفالية دينية دموية سنوية يتم فيها التضحية بالأب الذي عادة ما يكون حامي القبيلة وفاديها بنفسه كراع، بقتاله ضد الوحوش التي قد تفتك بها فيكون هو قربانها الدموي الفادي للقبيلة. فيموت في القتال أمامهم ميتة شرف. وحيث أنه يموت وهم شهود عليهن يطلقون عليه لقب الشهيد الذي شهدوا مجده، ثم أصبحت هذه الصفة ملازمة لكل من يبذل نفسه في سبيل الجماعة كراع صالح على معنى الكتاب المقدّس. وهي ميتة نبيلة تحقق له الخلود. وهي مفاهيم تطوّرت نسبيا ولكن حافظت على موطئ قدم لها في الديانات الابراهيمية المتأخرة فنجد في القرآن: "ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"[14]. وإذا لم ينل هذا الشرف كانت القبيلة تقدمه أضحية يأكلون من لحمها ويشربون من دمها ابتغاء قداسة الأب الراعي الخالد الشهيد. يندرج هذا التصوّر للقربان حسب القمني، ضمن سياق تاريخي موغل في القدم لحقته في ما بعد تطورات سمت بالقربان من الطبيعة البشرية إلى الحيوانية، كما شهد فترات نكسة. وقد تساءل في هذا السياق رينيه جيرار، إذا ما كانت الذبيحة الطقسية تقوم على ابدال معاكس يكون الهدف فيه خداع العنف[15]. أي أن الراعي هنا يفتدي القطيع بقربان يصرف العنف عنه. يصبح جليا من ما تقدّم، التطوّر الذي اعترى مسألة الذبيحة. وهو تطوّر مساير لطبيعة الحضارة والتغيرات التي طرأت على العقل البشري.
من هذا المنطلق وباعتبار التجاذب الضدّي الذي يفضح صلة النسب الحميمة بين الذبيحة والجريمة[16] (بدليل استجابتهما للإبدال المزدوج: قتل الذبيحة ضرب من الاجرام باعتبارها مقدسة – العنف – والذبيحة لا تكتسب القداسة الا متى قتلت) فإن "اخفاق الذبيحة أو فساد العنف الذبائحي يفقد الذبيحة طابع العنف المقدّس وتمتزج بالعنف المدنّس"[17]. إذن بذبح الراعي خليفة السلطاني اُقحمنا في بوتقة العنف المدنّس. فالحادثة انتكاسة جليّة لتطوّر الفكر الإنساني الذي في جانب منه، وصل إلى حدّ رفض النظريّة أصلا لوقوعها خارج ما يعتبره الحدود العلميّة. وأعادنا بذلك، هؤلاء الظلاميون إلى السحيق من الزمن أو إلى ما عبر عنه طيب تيزيني بالعودة الى "مرحلة التوحش فيما قبل التاريخ الإنساني العاقل"[18]. وهنا نتوقف عند مسألتين: الأولى، انسجام هذا التقهقر مع الفكر الاسلاموي (الاسلامي في بعده السياسي)، والثانية، القطيعة بين شخصية هذه الفئة والشخصيّة التونسيّة.
أما المسألة الأولى، فمنطلقها عجز الديني عموما عن التكيّف[19]. فالفكر الديني أصولي بطبيعته، ومردّ ذلك أن الحركات الدينيّة على غرار الاسلام وإن بدأت ثوريّة فلا ديمومة لها ولا استكانة في نسيج مجتمعي ما إلا بالنفس الأصولي الذي ينبذ الحداثة وفي بعض المواضع المعرفة. وجذور الفكر الذي يحمله هؤلاء يعود أفكار السيّد قطب الذي عبر حسب حميد بوزارسلان، مراحل من التطرّف لم يكن أي اسلاموي قد تجرّأ على عبورها[20]. ومع تأسيس حسن البنا لحركة الإخوان المسلمين (1928) انتقل هذا التيّار الفكري من إخلاص المؤمن للإله، إلى إخلاصه للإسلام ذلك النظام السياسي اساسا والمتكامل اجتماعيا واقتصاديا واخلاقيا (تحوّل النظرة التي كانت ترى الاسلام بعين الإيمان). كما انتقل من السّلفيّة التقليديّة (الكلاسيكيّة) باندفاعاتها نحو الماضي إلى تسيس المرجعيّة الدينية[21]. الأمر الذي انضوى على خطورة كبرى، فالإدغام بين السّياسي و الديني فتح الباب لتشكّل حركة سياسية شبه عسكريّة كانت الرّحم الذي زرعت فيه بذرة داعش، التمثّل الأسمى للحركة الدينية العسكريّة وبالتالي ميلاد التوحّش بالعودة الى الذبيحة الأولى وإلى العنف المدنّس. ومنذ حادثة ذبح الصحافي الأمريكي جيمس فولي (19 أوت 2014) تواردت عميات الذبح التي نفذها التنظيم الإرهابي، إمعانا في ترسيخ مرحلة التوحّش.
أما المسألة الثانية، فتجد مبرراتها في واقع كون بعض المجتمعات (ومنها تونس) لا يطرح فيها الانتماء الديني كخيار شخصي بقدر ما هو هويّة جماعية، فيتطابق المعلم الثقافي وذاك الديني مما يجعل مثل هكذا مجتمعات – وإن تعولمت – تحمل على الدوام الأثر الثقافي للدين المؤسس[22]. فانت إن ولدت في تونس تكون على الأغلب مسلما، سنيا، مالكيا، سحنونيا، أشعريا، زيتونيا. في الوقت الذي قد لا تدرك فيه الفرق بين السنّة والشيعة ولا دراية لك بفقه الامام مالك ولا بذاك الذي للإمام سحنون وقد لا تعرف حتى من يكون أبو الحسن الأشعري كما قد لا تفقه من الزيتونيّة غير موضع المسجد بأحياء مدينة تونس العتيقة. ذلك ما جبلت عليه دونما اختيار منك وانما هو من قبل الهوية التي تتقاسمها مع المجتمع الذي وجدت نفسك فيه. في الوقت الذي ينشد فيه الاسلامويون مجتمعا دينيا مستحيلا. إذ أن أوليفييه روا بنى الدليل على استحالة كون جماعة إيمان مجتمعا "حقيقيا". فهي ما كانت كذلك يوما، حتى في عهد نبي الاسلام في الوقت الذي تعتبر فيه جماعة ذلك العهد مثالا أعلى مشبعا بالحنين لدى من ينادي بقيام "دولة إسلامية". فلم تقع يوما منافسة حقيقية بين ولاء ديني وآخر قومي[23]. بالتالي اغتراب الاسلامويين في علاقة بالمجتمع التونسي يبرر تلك القطيعة، كصدع لا رأب له، فهم بذلك خارج المجتمع التونسي، وفي الحقيقة خارج كل مجتمع ممكن. فهذه المجموعات الجذرية المستلهمة لفكر سيد قطب، كانت قد قطعت علاقتها بالاسلام الأكثري رامية بالردة كل من لا يتبع منهج القطيعة مع الآخر[24] (المتمثل لديهم في الغرب) وهو فكر منبنٍ على أفكار تشكل معوّقات أمام امكانية (حتى) الحوار معه[25]. فهو قائم على الحاكميّة القاضية بردّة وكفر من يحكم بغير ما انزل الإله، (في تناس صريح لصحيفة المدينة كقانون وضعي) وهو ما يعيق انصهارهم في الدول بشكلها الحالي. ضف إلى ذلك مفهوم الولاء والبراء الذي تستحيل معه إقامة كل علاقة انسانية على المستوى الشخصي أو الدولي، مردفا بجواز استهداف الأجانب من أصاب الديانات الاخرى، مشفوعا باقتناع كلي بحتميّة المواجهة مما لا يدع للسلم مكانا بما يصيّر كل فترة هدوء بمثابة هدنة حرب. وحدّث ولا حرج عن الجهاد الذي تحوّل عن فكر بن لادن الرافض لجهاد العدو القريب (الانظمة العربية والمسلمة) الى فكر البغدادي الذي لا جهاد له إلا للعدو القريب، وحتى إذا ما تبنى التنظيم هجوما في احدى العواصم الغربية، لابد أن يكون من بين الضحايا مسلمون. لذلك تناقض شخصيّة الاسلاموي المتشبّعة بالعصبيّة (التي لا يمكن أن تكون لصاحب دولة) على المعنى الخلدوني[26]، لمشابهة لشخصيّة المسلم خلال القرون الخمس الأولى للهجرة[27] (وهو ما لا يستغرب من الفكر الاصولي الرجعي بطبعه) الباحثة عن الخروج من الهامشيّة الى فعل صناعة التاريخ بعقلنة العنف عبر المعتقد (على معنى مرسيا إلياد)، الشخصيّة التونسيّة القاعديّة المتجانسة والموحّدة بفعل التاريخ المتعدد والمتعاقب، مما أكسبها ثلاثية التأقلم (على عكس الفكر الاسلاموي) والصهر والانصهار التي صبغتها بدورها بمرونة جلية، يرافقها "وعي بالانتماء الى جماعة عريقة واحدة وإلى حضارة مشتركة"[28]

خيانة الدم
حين يأكل الأجير والجلاد من طبق واحد

الأرض وحدها لم تخن، ورفضت تشرّب دماء الرعاة المحرّمة من بعد الجريمة الأولى. كلّهم خائنون. الاسلامويون خانوا الانسانية، وحكامنا الاجراء خانوا البلاد، وكلنا إما بصمت المتفرّج أو بثورته الظرفيّة المبتورة الرعناء، قد خنا تلك الدماء. فما الاسلاموية الا تيار مهمّش لا مصداقية له إلا أمام عظمى اقتصادات العالم وربيباتها التي آثرت تشكيل حزام أنقلب اخضراره سوادا ليحاصر كل نفس ثوري بأنظمة أصوليّة خشية من فزاعة الشيوعية[29]. وأما اجراء الداخل فما كانوا ليتربعوا على عروشهم ويربوا كروشهم لولا اليد ذاتها التي تمتد اليهم بقراريط تشتريهم بها من أقذر سوق لنخاسة الذمم. ويجتمع المرتزقة مع الظلاميين على خراب الوطن.
أحببنا أم كرهنا فرضيتان هما كل ما أمامنا منذ الربع الأخير للقرن العشرين، الأولى ترى العولمة سيرورة حتمية نحو الحداثة ونتيجة لها في آن، واخرى تحيي عودة الديني[30]. وتونس اختارت درب الحداثة منذ الادارة البورقيبية وأكدت بثورة هي المنجز التاريخي الوحيد في خضم الخريف العربي المنازع للنجاة من الثورة المضادة، بفضل ذلك الخيار البعيد: خيار الحداثة[31].




[1]  عامر بوترعة (1947 – 1998) شاعر وأديب أصيل ولاية قفصة.
[2]  الإستذكار، الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في أمر الغنم، الحديث رقم 1816، الصفحة 203.
[3]  الكتاب المقدس (نسخة الملك جيمس)، العهد الجديد، إنجيل لوقا، الإصحاح الثاني، الآية 15 إلى 20.
[4]  عظة ألقاها مترئسًا القداس الإلهي صباح الثلاثين من ماي 2017 في كابلة بيت القديسة مرتا بالفاتيكان.
[5]  صحيح مسلم (بشرح الغمام النووي)، المجلّد الرابع، كتاب الإمارة، باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية، الحديث رقم 1829، الصفحة 529.
[6]  الكتاب المقدس (نسخة الملك جيمس)، العهد الجديد، إنجيل متّى، الإصحاح الخامس عشر، الآية 24.
[7]  صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، رقم الحديث 2143.
[8]  الكتاب المقدس (نسخة الملك جيمس)، العهد القديم، سفر المزامير، المزمور الثالث والعشرين، الآية الأولى.
[9]  الكتاب المقدس (نسخة الملك جيمس)، العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الرابع، الآية 24.
[10]  عبد الباقي يوسف، نشوء فكرة النزوع العدواني، الحياة الثقافيّة، العدد 278، الصفحة 43.
[11]  الكتاب المقدس (نسخة الملك جيمس)، العهد الجديد، إنجيل يوحنّا، الإصحاح العاشر، الآيتان 11 و12.
[12]  معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، جلال الدين سعيد، الصفحة 310.
[13]  مقال أصول فلسفة الدم، سيد القمني، مجلة الجديد اللندنية، العدد 25 (01-02-2017)، الصفحة 22.
[14]  القرآن، سورة آل عمران، الآية 169.
[15]  العنف والمقدّس رينيه جيرار، ترجمة سميرة ريشا، الذبيحة، الصفحة 20.
[16]  العنف والمقدّس رينيه جيرار، ترجمة سميرة ريشا، الأزمة الذبائحية، الصفحة 78.
[17]  العنف والمقدّس رينيه جيرار، ترجمة سميرة ريشا، الذبيحة، الصفحة 18.
[18]  الإنسان الوحش، العودة إلى ما قبل التاريخ، طيب تيزيني، حاوره عمار المأمون، مجلة الجديد اللندنيّة، العدد 7 (أوت 2015)، الصفحة 57.
[19]  العنف والمقدّس رينيه جيرار، ترجمة سميرة ريشا، الأزمة الذبائحية، الصفحة 77.
[20]  قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط، حميد بوزارسلان، ترجمة هدى مقنّص، الفصل الخامس: شرخ عنوانه السيّد قطب، الصفحة 167.
[21]  قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط، حميد بوزارسلان، ترجمة هدى مقنّص، الفصل الخامس: شرخ عنوانه السيّد قطب، الصفحة 163.
[22]  الجهل المقدّس، زمن دين بلا ثقافة، أوليفييه روا، ترجمة صالح الأشمر، الفصل الثالث: دين عرق أمّة، الصفحة 117.
[23]  الجهل المقدّس، زمن دين بلا ثقافة، أوليفييه روا، ترجمة صالح الأشمر، الفصل الرابع: الثقافة والدين: القطيعة، عندما يتشارك المؤمنون وغير المؤمنين في الثقافة ذاتها، المجتمع الديني المستحيل، الصفحة 177.
[24]  الجهل المقدّس، زمن دين بلا ثقافة، أوليفييه روا، ترجمة صالح الأشمر، الفصل الرابع: الثقافة والدين: القطيعة، الحداثة الوثنية: آلهة الانسان الملحد الجديدة، القطيعة، الصفحة 215.
[25]  مقال معوقات الحوار: الافكار الهدامة الكبرى عند التيارات المتطرّفة، الاستاذ علي بكر، مجلة الثقافة العالميّة، العدد 186، نوفمبر ديسمبر 2016، الصفحة 142.
[26]  مقدّمة كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، عبد الرحمان ابن خلدون، الكتاب الأوّل: في طبيعة العمران في الخليقة، الفصل الثاني: في العمران البدوي والامم الوحشيّة والقبائل، فصل في أنه إذا استقرّت الدولة وتمهّدت قد تستغني عن العصبيّة، الصفحة 250.
[27]  مقال الاسلام والعنف، الى نهاية القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي (رسالة دكتوراه دولة)، عبد الله خلايفي، مجلة الفكر الجديد، العدد الثاني (أفريل 2015)، الصفحة 92.
[28]  الشخصية التونسية، محاولة في فهم الشخصية العربية، منصف ونّاس، الفصل الاول: الشخصيّة القاعدية ومراحل تشكلها تاريخيا واجتماعيا، خصائص الشخصية التونسية الكبرى، الصفحة 32.
[29]  قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط، حميد بوزارسلان، ترجمة هدى مقنّص، الفصل الخامس: شرخ عنوانه السيّد قطب، الصفحة 160.
[30]  الجهل المقدّس، زمن دين بلا ثقافة، أوليفييه روا، ترجمة صالح الأشمر، الصفحة الثانية.
[31]  الربيع الدامي، المثقفون العرب والانتفاضات، ربيع العلاقة المريبة بين الديمقراطية والأرهاب، ربوح البشير، مجلة الجديد اللندنية، العدد الثاني (مارس 2016).

الراعي الشهيد مقال نشر في موقع رباط أف أم يوم 05 جوان 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق