الثلاثاء، 26 يوليو 2016

الثدي في بزول سبل النهد و الانحطاط

التمثل الرمزي للثدي في التاريخ الإنساني في مختلف الثقافات المتعايشة و المتلاقحة و المتعاقبة يشكل مرآة للنظرة المجتمعية لمفاهيم الأنوثة و الخصوبة و الحياة و حتى الموت.


لم ينهد النهد على الساحة الفنية العالمية إلا في القرن الرابع قبل الميلاد. ظهور مفاجئ تعتقد ماري بيرد أن مسبباته تمثل محل جدل واسع. و أول تلك التماثيل ذلك الذي لفينوس لكريدوس المعروف شعبيا باسم بوديكا. و قد أعطت تمثلا مرمريا بمقاييس متواترة بعده نعزوها لعدم بزوغ نجم التشريح بعد. تمثل شذت عنه الثقافة الشعبية لإفريقيا السمراء. فقد صورت تماثيلها البدائية المرأة الهركة و عظيمة العجيزة و عارم الصدر. و المفارقة هنا تكمن في أن شح الموارد في افريقيا و خصوبة و ازدهار الحضارتين الاغريقية و الرومانية دليل على أن الفن لم يكن يعكس الموجود بقدر ما هو بحث عن منشود.
ثم كان التمثال الاغريقي ذا الصدر الواحد للمحاربة الأمازونية في تمثل يتصادم مع سابقيه للعدوانية. و ما تسمية أمزون إلا كلمة اغريقية من جزأين: أما الأولى ف "أ" و التي تعني بدون و من ثم "مزون" التي تعني صدر في اشارة للأسطورة التي تقول بانتزاع المحاربات لأحد الثديين ليتمكنن من شد القوس بشكل فعال و أما الثدي الآخر فلا يرعى غلا المواليد الإناث فيما يتم التخلص من الذكور.

و على كل حال لم يكن الثدي إلا إلى زمن قريب ذا معنى جنسي ففي افريقيا لم تكن النساء تعبأن للمتفرجين و كن و لازلن في بعض المناطق يتركن صدورهن بلا تغطية. حتى في بريطانيا كانت قد انتشرت موضة تعرية الصدور بشكل دفع الملك هنري الثامن الى التشكي و فرض تغطية الصدور معتبرا أن في ذلك احتراما للآباء و الازواج ملاك الأراضي غير التاريخ اثبت في ما بعد أن السبب الحقيقي هو ترضية عشيقته آن بولين التي كانت ذات ثديين ضامرين نسبيا. في ضل حكم ابنتها اليزابيث الأولى برزت ظاهرة تثدي الرجال فكان بروز الثندؤة – تسمية ثدي الرجل – بادرة تقدير و اجلال للملكة التي تقوم بعمل الرجال.
في فرنسا قادت الحرية الشعب في لوحة دو لاكروا رافعة اللواء و عارية الثدي متجاوزة جثث الشهداء. ليس الأمر بمنأى عن الديانات المتعاقبة كما يعتقد البعض. فالصورة القاتمة لجسد الأنثى و تكالب التكالب نحو مداراة دنسه المزعوم تحت الخرق و اللحف لم تأت مع الأديان. ففي المسيحية الثدي ليس إلا منبعا من منابع الحياة و همزة وصل بين الرضيع و الأم. فالمسيح حين ولد التقم حلمة دونا ماريا أو مريم العذراء التي قربتها منه لينهل منها و تنهل منها معه ضمنا كل النفوس الضائعة و التواقة لرابط مع الرب و قد بدا ذلك جليا في أعمال عصر النهضة. ذلك قبل أن تلتحف الراهبات السواد و تذقن أنفسهن صنوف العذاب و تظهر في القرون الوسطى كماشة الثدي و جماعة الأوبوس داي و ينحدر الرمز السامي الى الحضيض فيحل محل رابط الامومة و رابط الربوبية المقدسة مفهوم الخطيئة و الدنس و الطهارة. الامر الذي جعل الكنيسة تحرق النساء عاريات الصدور بشبهة الهرطقة و ممارسة السحر.

جاء الاسلام بمفهوم العورة الذي استغل بشكل فاحش لقمع النساء و هضم حقوقهن. غير أن عورة الأمة كعورة الرجل. فهل في ذلك عز و تحرر للأمة أم ذلة للرجل و عز للمرأة الحرة؟ هذا جدل تغلب عليه السفسطائية كثير الأحيان فأفضل عدم الخوض فيه غير أن الأدب لا أراه يعبأ للعورة بفهمنا الحالي لها. فيقول عمرو بن كلثوم:
وثدياً مثل حقِ العاجِ رخصاً ... حصاناً من أكفِ اللامسينا

وقال الحسن بن التختاخ في ثديين:
أو كأنصافِ حقتين من العا ... جِ لقد أشبهتْ حقاً ثديا

وقال بشار:
والثديُ تحسبه وسنانُ أو كسلا ... وقد تمايل ميلاً غير منكسرِ

وقال ابن الرومي:
صدور فوقهنَّ حقاقُ عاجٍ ... ودرٌ زانهُ حسنُ اتساق
يقولُ القائلون إذا رأوهُ ... أهذا الدر من هذي الحقاقِ

ومما يستحسن في وصف الثدي قول المهلبي الوزير:
أقاتلتي بانكسار الجفون ... ومستوفزين على معصر
كحقين من لب كافورةٍ ... برأسيهما نقطتا عنبر

غير أن جنون الدغمائية على العقول التي أحقب عنها العلم دره و تجوسقها عن ما دون الفتاوى المخلولقة و التي أوصدت كل باب للتنفس و التعقل و التفكر و الحياة جعل معشر المسلمين إلى الساعة يغرقون في السواد و يعتنقون ثقافة الموت و يتحججون بالعورة و عوراتهم قابعة بين المسمعين.

نشرت هذه المقالة و الصورة المرفقة بتاريخ 26 أكتوبر 2015 في المعلقة (مجلة حائطية اسبوعية كانت تصدر عن منتدى الحقوقيين بكلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة و قد كنت رئيس تحريرها)

بالورقـــــة و القلــــــم

في دولة صرنا نتبجح بأن نسبة التمدرس فيها هي 99 بالمائة - و هي بالمناسبة المعلومة الإحصائية الوحيدة التي قد يقدمها لك المعهد الوطني للإحصاء – ظهرت عديد النقائص تحاول الوزارة اليوم تلافيها بالوقوف موقف حركة محمود المسعدي المجيد في صدر الاستقلال خاصة و أن نسبة التلاميذ الذين يزاولون دراستهم بمؤسسات حكومية هو 99.4 بالمائة لتكون بذلك تونس بالمرتبة السادسة من ثلاث و ستين دولة يشملهم البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلميذ التابع لمنظمة التعاون و التنمية الاقتصادية. بذلك يطرح هذا العدد الهائل لمنظوري المؤسسات التي هي تحت إشراف الوزارة عديد الاشكالات التي أدت لحقيقة الفشل.

فشل المنظومة التربوية:

إن لهذا الفشل دلائل تؤكده و مسببات تغذي وجوده و تداعيات تعمق الصدع الذي إن لم يولى العناية اللازمة لن يرأب. أما الدلائل فلا أبلغ من أن نسبة التلاميذ الذين رسبوا مرة أو أكثر خلال دراستهم هو 38.7 بالمائة فتكون تونس الثالثة عالميا في نسب الرسوب. إن لم يكفك ذلك فلتعلم أن البرنامج سابق الذكر أخضع تلاميذنا في مختلف الجهات إلى اختبارات مكثفة فكانت مرتبة تونس 59 في الرياضيات و 55 في القراءة و 60 في العلوم بينما نسبة التلاميذ ذوي المستوى الضعيف في هذه الاختبارات هي 57.4 بالمائة. غير أن الأدهى و ما يعتبر مدعاة للإحباط و لإعادة اعمال الفكر في النهج التعليمي و التربوي في بلادنا هو أن مؤشر إحساس التلاميذ بالثقة في ظروف الاختبار هو ناقص 0.3 لنحتل المرتبة 35 من 38 دولة خاضعة لهذا المؤشر.

و أسباب هذا الفشل و إن تعددت فإنها ذات فرع مشترك و هو نقص الموارد المالية و الذي نعتبره في الحقيقة تجاهلا للقطاع و تنكرا لسياسة أرستها القيادة البورقيبية إبان الاستقلال و أظهرت نتائج باهرة في ما يخص النهوض بالمستوى الفكري و الثقافي و العلمي لأفراد المجتمع بالاستثمار في التعليم دون السلاح و هو ما تسابقت إليه أغلب الدول العربية في وقت ما. و دارت دوائر الزمن لنشهد يوما في مسيرة تونس الحديثة ما بعد الثورة تكون فيه ميزانية وزارة الشؤون الدينية أرفع من ميزانية وزارة التربية. فكأن لكل زمان سلاحه الذي يتدرب عليه أبناؤه ثم يعودون به مغتالين لقادتهم و منقلبين على إرادة شعوبهم. ذلك أن مؤشر نوعية موارد المؤسسات التعليمية هو ناقص 1.35 لنكون برتبة 62 غير تاركين إلا للبيرو و كولمبيا خلفنا.

و قد ألقى هذا الفشل بخيبته على المجتمع فحسب خلية علوم الاجرام في مركز الدراسات القضائية 57 بالمائة من الذين بين 13 و 18 سنة يتعاطون المخدرات. و لتنصدم أكثر بمعرفة أن 50 بالمائة من تلاميذ تونس يتعاطون المخدرات حسب مقالة نشرت بجريدة الصباح. أما نسب الذين جربوا فهي حسب تقرير إدارة الطب المدرسي و الجامعي التابعة لوزارة الصحة 61.1 بالنسبة للذكور و 40.9 بالنسبة للإناث و قد كانت هذه الأخيرة 10 بالمائة قبل الثورة. و ان كانت تخامرك التساؤلات حول الغرض من التدقيق و المقارنة في نسب الإناث دون الذكور فذلك لأن الجمعية التونسية للوقاية من تعاطي المخدرات صرحت بأن 30 بالمائة من مستهلكي الزطلة عموما إناث و 10 بالمائة من المستهلكين إجمالا فتيات لم يبلغن سن الرشد و ذلك مع رصد تلميذات بصدد الترويج لهذه المادة المخدرة. فلا يبقى مدعاة للدهشة علمنا بأنه من 14 ألف حالة إجهاض سنوية في تونس 6 بالمائة من هذه الحالات هي لتلميذات حسب موقع المصدر الالكتروني.

الحلول:

تفصيل العلل يستوجب بداهة تقديم الحلول. فإذا علمن أنه حسب السيد عبد المجيد الزحاف رئيس الجمعية التونسية للوقاية من تعاطي المخدرات في حوار مع العربي الجديد التهريب و عدم اهتمام الأساتذة بالإصغاء للتلاميذ هي الأسباب وراء تفشي هذه الظواهر. الحل يكون إذن اعتماد مقاربة تقوم على ثنائية الرقابة و الإصغاء.

أما الرقابة فبتعزيز عدد القيمين بالمعاهد و المدارس الثانوية و إعادتهم إلى سالف وقعهم على نفس الطالب للحد الذي دفع بأحد الأدباء الفرنسيين إلى وصفهم بالقول: « les surveillants étaient surnommés les pions dans le jargon scolaire » و قد كان هؤلاء البيادق العين الساهرة على سلامة و انضباط صف التلاميذ.

و أما الاصغاء فبإجراء استطلاعات دورية لآراء التلاميذ و بعث خلايا توعية و ارشاد صلب المؤسسات التعليمية و وضع إطارات سامية على رأسها و فرض حصص تربية جنسية دورية بها. ذلك كله إلى جانب واجب إعادة النظر في المواد المدرسة و الاختصاصات المطروحة و البيداغوجية المعتمدة. إضافة الى الزامية رقمنة التعليم في تونس و ادخاله عصر التكنولوجيا الحديثة و الاستغناء عن الوسائل التقليدية لاستسقاء المعلومة و محاملها البالية.

نشرت هذه المقالة و الصورة المرفقة بتاريخ 12 أكتوبر 2015 في المعلقة (مجلة حائطية اسبوعية كانت تصدر عن منتدى الحقوقيين بكلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة و قد كنت رئيس تحريرها)

التأثير المفسد للانتخابات

التأثير المفسد هو مفهوم يتعلق بنظم الانتخابات أساسا حيت يبرز النتيجة الحتمية لصدام الظاهرة الحزبية بنظام الانتخاب و هو ذات السبب الذي يجعل جل دول العالم الديمقراطية تشهد و ان تعددت أحزابها ثنائية حزبية في التداول على السلطة.

في حقيقة الأمر مفهوم التأثير المفسد هو وليد تفاعل معطيات أخرى هي بالأساس تنافس الإيديولوجيات و التصويت المفيد و العائلات السياسية. لتبسيط الامر لنفترض أن ستة أحزاب ترشحت للانتخابات التشريعية هي ألف و باء و جيم و دال و هاء و واو. و بغض النظر عن طريقة الاقتراع فان أحدها سيكون الأول. لنقل ان النتائج كالاتي: ألف: 20% و باء: 26% و جيم: 18% و دال: 11% و هاء: 21% و واو: 4%. بالتالي الحزب ب هو الفائز. في الاستحقاق التالي لن تكون الأمور على حالها فالناخبون لازالوا يتذكرون النتائج السابقة مما يؤثر حتما على قرارهم الحالي فهؤلاء الذين وجدوا ان ليس لأصواتهم معنى و لا تأثير سيبحثون عن حزب آخر من نفس العائلة السياسية فلنقل أن أصوات دال ستذهب لهاء و أصوات واو ستذهب لباء نصير في حالة أربعة احزاب مترشحة وهي ألف و باء و جيم و هاء. فيكون توزع الأصوات في الاستحقاق التالي: ألف:20% و باء: 30% و جيم: 18% و هاء: 32% . بالتالي يكون حزب هاء هو المتصدر و تنتقل اليه السلطة. ثم في الاستحقاق التالي جمود أصوات الحزبين ألف و جيم و بقاؤهما على هامش الحياة السياسية باعتبار ضآلة نسبة أصواتهما نسبة إلى ما للباء و الهاء من أصوات سيؤدي بأصواتهما للذهاب في هذه الحالة إلى الحزب الأقدر على مجابهة ذاك الحزب الذي يعادونه إيديولوجيا فلنقل أن أصوات الجيم ستذهب للباء باعتبار رفض أنصاره لحكم الهاء لا قبولا و رضا بحكم الباء و أصوات الألف للهاء للسبب ذاته بذلك يكون التصويت قائما على مبدأ درء المفسدة أي ترجيح كفة الأقدر على الوصول للسلطة و دحر المنافس لا الاجدر و الاكثر توافقا مع رغبات الناخبين و هو بنوع من التبسيط جوهر التصويت المفيد. و تكون الأصوات: الباء: 48% و الهاء: 52% . و تبقى السلطة بيد الهاء حتى الاستحقاق القادم الذي لن تجد في منافسا عدى الباء و تبقى السلطة في مجيئ و ذهاب بين هاذين الحزبين. أضف إلى هذه المعطيات مفهوم توظيف التقسيم الانتخابي و الذي يقصي الأحزاب الصغرى ذات التمثيلية الكبرى في بعض الدوائر من المعادلة. فلنفترض أن إحدى الدوائر ينقسم ناخبوها بداية بشكل يكون فيه ثلاثة أعشارهم مرشحين للباء و ثلاثة أعشار آخرين للهاء و أربعة أعشار للألف. بتواتر العمليات الانتخابية و تحت وطأة النتائج الحسابية و الترويج للتصويت المفيد و أمام تداول الباء و الهاء على السلطة يجبر ناخبوا الألف بتلك الدائرة على اختيار جانب ينحازون له فإذا فرضنا انقسامهم بين الحزبين الآخرين ليكون لكل منهما خمسة أعشار أي نصف الناخبين يقصى بذلك الألف من الدائرة التي كان بها أغلبيا و يحرم من أي تمثيلية و لو بسيطة في ضل نظام التمثيل النسبي على سبيل المثال. لنتصور الآن أنه بعد عقود من التداول الثنائي يقرر حزب ثالث دخول المعترك لنفترض أنه سيكون الألف. في حقيقة الحال هو لن ينال أكثر من 15% من الأصوات أغلبها من الهاء الذي ينتمي و إياه لنفس العائلة السياسية و الذي يكون ناخبوه أشد توافقا معه من غيره بذلك يخسر الهاء السلطة لصلح الباء و لا يكون الألف قد حقق شيئا سوى أذية ناخبيه الذين كانوا ممثلين بحزب يمسك بزمام السلطة و هم ناخبون لن يقترفوا خطأ التصويت لحزب ثالث ثانية.

إذن و كما سبق بسطه و بيانه أعلاه في دراسات سياسية و اجتماعية حديثة من قبل أمثال إليوت كولتر و بين جاكوبز و بيل نيميتز و غيرهم كل دولة ديمقراطية في العالم بغض النظر عن نظام النتخاب فيها أمهلها وقتا كافيا و ستحكمها ثنائية حزبية.

نشرت هذه القصة و الصورة المرفقة بتاريخ 16 فيفري 2015 في المعلقة (مجلة حائطية اسبوعية كانت تصدر عن منتدى الحقوقيين بكلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة و قد كنت رئيس تحريرها)

بومبـــــــــــاي

فتحت أمامي بوابة عشتار بزرقتها الدامغة لألج المترو الخفيف من محطة دربنت تلك المدينة المنسية و ميلاج الفتوحات. جلست حذو النافذة و قبالة فتاة خجولة جالسة بضم الرجلين و فتح الشفتين و كسر الناظرين. كذا متمردة على الاعراب. بانت لي فيما داعبت أشعة النجم المستعر شعرها مذ بدأ حاويتنا المعدنية سعيها المحموم نحو بومباي في تجلي ستناي و لعلها أرتميس أو صاحبة البوابة الزرقاء. فتحت المكسور و نظرت صوبي فاخترقت جلدي الفاني الى مكمن الروح و قبضت على مقتلي فكنت لها و كانت لي. ها قد قلت الكلمات و لو في سري. استغللت صعود الناس من محطة الكلية لأحاذيها مقعدا. عندها و مع المسير عرفت أنها أغلبية و لونها المفضل الأزرق و مقاس قدمها ثمانية و ثلاثون و عمرها زاد بضعا عن العشرين و هي البنت الكبرى و الأخت الوسطى و عيد ميلادها اليوم. و فيما توقف بنا المسير في محطة المطار اقتنيت لها هدية من السوق الحرة. عندها قالت في حياء: "أنا عذراء" أجبت: "و ماذا في ذلك فأنا ثور...أأقرأ لك حظك اليوم؟" ابتسمت فانقشع الجليد و شعت حولها هالة ذهبية أكستها حلة قداسة كلوحة من الزجاج الملون بكنيسة القديس بطرس. و عندها تكلمت ثم تكلمت ثم تكلمت و كدت أضيع الخيط من الابرة لولا قبلة فاجأتني عن حين غرة فكانت في محطة النزل قبلتنا الأولى. و نما الحب فينا. و حلمنا و خططنا للمستقبل و لقاء الأهل و الشرط و لبوس الخاتم و الحناء و الجهاز و رقص الفزاني و فيما يصعد شيخ ضرير بجبته الرمادية إلى القطار من محطة السبخة التقفناه فأجلسناه قبالتنا و قلنا "أكتب صداقنا". و هكذا صرنا السيد و السيدة فلان. و قبل أن يفتض المجلس كنت فلاحا اعمل كادحا لزرع بذور الآلهة في سهل هيرا. دام شهر عسلنا خمس دقائق زرنا فيها سان سيباسشون و جابور و ليسبون و بوينو أيريس و بودابست لننتهي إلى الساحلين أين توقف بنا الزمان الأزرق الحامل لشعار شركة السكك الحديدية. فقالت: "أنا حامل". نعم سأصير أب الآلهة. في حقيقة الأمر توأم اخترت لهما من الأسماء رومولوس ورموس. لعل ذلك راجع لعلمي بما سيشقيانه أو لعها ضربة حظ أو ضربة شمس. من يدري؟ المهم أننا كنا عائلة واحدة كبيرة سعيدة. ثم كان علي أن أشتري علبتي حليب مجفف و حفاظان و قارورتا رضاع و لباسان و علبتي دواء عندما يمرضان. تبا لهما كم يستأثران. لم يكفهما جيباي فاستأثرا دوني بمنهلي أمهما. تبا لهما و للأبوة و للاقتصاد و للتاريخ و لكل المواد التي رسبت فيها في الباكالوريا. و نشب الصراع. و تهافت الوافدون من المحطة الجنوبية شطر يشهد شجارنا و آخر يوسوس في صدورنا ليحمى وطيس وغانا. و حظرنا رجل وقور قيل أنه درس القانون. فقالت شاكية: "هو لا يفتح كفه فنعيش" و قلت: "هي لا تفتح تيان آن من فألج لمدينة القرمزية المحرمة" فقالت: "لكن في كفه الحياة" و رددت: "بل أنت الحياة و إن لم أخض غمارك فأتسلق سفح ايفرست نهدك حتى القمة و أسبح مع قروش قواطعك في رحيق فمك المتقطر و اسبر كنه تويفيلزهوله القابع في هيبة أسفلك فأنا ميت. و قبر نفسي هذا الجسد البالي الذي سأم". فأصدر الرجل حكمه بالطلاق في محطة محمد الخامس. فانتقلت للجلوس بصفة أخرى و تركت كرسي و ما حوله لها و للتوأم بلا مؤخر صداق و لا نفقة. فلتحبسني. أسمعتم يوما بسجن السجين عقابا؟ و كان أن نزلنا في محطة وجهتنا. بومباي تلك المدينة التي كتبت نازك الملائكة على أسوارها: عد, عد إلى لهب الصحاري وانج من حمم المدينة - لا تلق قلبك في اللظى وأصغ لشاعرة حزينة. و نظرت إلي و نظرت و الطفلان قابعان على زنديها يحيطان جيدها. و قبل أن تنبس قلت: "لازلت صغيرا لأكتفي بحلمتيك".
نشرت هذه القصة و الصورة المرفقة بتاريخ 09 فيفري 2015 في المعلقة (مجلة حائطية اسبوعية كانت تصدر عن منتدى الحقوقيين بكلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة و قد كنت رئيس تحريرها)

ذهنية التكميم

مثلما وقف "صادق جلال العظم" موقف المحاور من "أدونيس" في الجزء الأول من كتابه "ذهنية التحريم" أقف اليوم – ولو في سياق آخر – ذات الموقف من "كيم جونغ أون" الدكتاتور الصغير القابض على هذا الصرح الذي تقرأني واقفا في رواقه.

كلما أصابت البلاد نائبة قلنا "التاريخ يعيد نفسه". هي عبارة دفعتني للتساؤل: إن كان التاريخ يرسم في مسيره دوائر حولنا، لماذا له هذه القدرة العجيبة على مفاجئتنا دوما؟ و خلصت إلى إجابة مفادها: أننا أغبى من أن نتوقع المحتوم. فأول أمس لما استمسك زوج أمنا الأول "المجاهد الأكبر" بدواليب الحكم كان مشد وثاقه على أفواه من لم يلقى أمام البسطة التي جنت على الدولة غيرهم صوتا واحدا متجانسا، ضد الحيف مدى الحياة، و ضد الاحتكار مدى الحياة، و ضد الصمت مدى الحياة، و ضد الموت مدى الحياة. 
فمجاهدنا المحنك يعلم أن حناجر الطلبة منذ مهدهم بالتبر تسبك. درس تعلمه عنه زوج أمنا الثاني "صانع التغيير" لما أصدر أمره الرئاسي الأول، أن كلما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه، إخمدوا صوته الالاهي بالعسف، أميتوا صداحه و نواحه. فلم يفرق قضيب السلطة في الاخماد بين "اللحي البنية" و اللحي اللينينية" و بين "النصيف" و "الكوفية". و كان مآل ألائك الذين رفعوا الصوت ضد الصمت و آثروا موت المحيا على حياة الممات، أن تلقوا دعوة في قفص حديقة حيوانات الحرية لوجبة فاخرة تناولوا في مقبلاتها السياط تمهيدا للأكلة الرئيسية، الدجاجة المصلية و ختموا بالحلويات الكهربائية. ليتجرعوا علقم التغيير عن طواعية، في سبيل المبدأ كآخر صرح لم تغزه بعد جنود الطغاة و لم يقوى عليه جنون الصمت.

اليوم زوج أمنا الثالث "المجيهد" يعول على تلك الصيرورة الحتمية للتاريخ، فيرسل علينا سيكلوبه، يحمل الرزايا في ثنايا صواعقه، يحملق بعينه الواحدة فينا و يمنعنا أن نتثقف، و أن نتكلم، و أن نتنفس، محتكرا الثقافة بين ثنايا مجلداته الرثة و محتكرا الكلام بشدقي كانغال، و محتكرا الهواء بمنخاري ابن حرب مهجو ابن الرومي، فكان كما قال فيه: "لك أنف يا ابن حرب ... أنفت منه الانوف ... أنت في القدس تصلي ... وهو في البيت يطوف". إلا أننا سنبقى كما كنا و كما عهدتمونا في بأس هرقل، و نور ابن رشد، و سعي فيديبيدس، أو كما يقول أجدادنا "قدادة و نقدوا, ندقوا المسامير في الهواء و يشدوا". في سبيل خلود السؤال في النفوس الفانية. سبيل نعدوه و لسان حالنا يردد لجلال عامر في قصر الكلام: "من المعروف اعمل معروفا ان الحاكم في العالم الثالث علوي لا يمشي بأمر الدستور لكنه يمشي ساعة يوميا بأمر الدكتور، فأربعة اخماس البرلمان حزب حاكم، و اربعة اخماس الهواء نيتروجين خامل، وهو ما يجعلنا نتنفس بحرية، لأن تكميم الافواه يفعله الاطباء في غرفة العمليات، و الامن المركزي خارجها أشياء صغيرة تنقصنا لنغادر العالم الثالث العلوي، و نصبح دولة من الطراز الاول، اشياء قليلة تنقصنا هي الحرية و الديمقراطية و العدل و الشفافية و المساواة و احترام العلم و الاهتمام بالتعليم و مكافحة الفساد و الغاء التعذيب و ......... البقية في العدد القادم".

نشرت هذه المقالة و الصورة المرفقة بتاريخ 02 فيفري 2015 في المعلقة اثر صدور قرار بمنع نشر العدد السابق بعد يومين من صدوره (مجلة حائطية اسبوعية كانت تصدر عن منتدى الحقوقيين بكلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة و قد كنت رئيس تحريرها)

الحريـــــــــــــــم

بحكم نزعتنا "القانونية" صرنا – و إن خضنا في موضوع ثقافي – نتناول الشكل في البدء ثم نخوض في الأصل. لغة, الحريم اسم مشتق من الجذع (ح.ر.م) و الحريم من كل شيءِ: ما تبعه فحرم بحرمته من مرافق وحقوق. و قد تطور اللفظ ليتحدد معناه الاصطلاحي بأنه موضع اقامة النساء في قصور الملوك و الامراء. و قد كان يعتبر سلطة داخل السلطة و دولة داخل الدولة. هو في الأصل ميزة الحكم الاسلام حتى ان حاله في ظل  الدولة العثمانية أدهش حتى من هم معتادون على حياة القصور بشهادة مبعوث الملكة البريطانية لمحمد الثالث توماس دالام. حتى امسى المقام لصيقا بقائميه فصار اللفظ يطلق على النساء. لفظ يبدو أن أهل الخليج استساغوه ليقروا تبعية شيئية للمرأة لهم.


إن لفظة الحال في رؤية عصرية، و إن كانت في الظاهر دخيلة على الثقافة التونسية بما هي مجلة الأحوال الشخصية و حراك المجتمع المدني، إلا أنها مقنعة بأنصفة يلقيها عليها حتى أكثر من يناصرون الحداثة و يقدمون أنفسهم نسويين مدافعين عن المرأة. و لعل العلة في الأصل، في تلك العلقة السوداء المعششة في العقل العربي المسلم. فتجدهم يتعسفون عليها باللفظ و الفعل. فالهجّالة مثلا لفظة مهانة و سباب، تعني الأرملة. و لكن ان كانت العربية تلك اللغة البديعة التكوين التي تسمي كل شيء بمسماه، لم لا نسمع لفظة أرمل أو أثكل؟ لم نستنقص المرأة بغياب الرجل؟ أو ليست منتهى الخلق و مكمن الإبداع الرباني؟ لم يعوزها كائن سبقها خلقا أقل منها بحكم هذا التمشي المنطقي تطورا؟ و لعل أكثر ما يشد الانتباه لغويا، نسب الفعل للرجل و خص المرأة بالانفعال. و هي حسب الدكتورة ألفة يوسف، كما ورد في كتابها وليس الذكر كالأنثى: "ليست استعمالات لغوية وصفية فحسب و إنما هي تثبت البعد المعياري لثنائية الفاعل و المنفعل تجعل الفاعل مرموقا و المنفعل محتقرا" هو طرح تستفيض الكاتبة في شرحه لتخلص إلى التعسف اللغوي على المرأة في تونس .

لكن تبقى مسألة الفعل هي الأكثر تجليا. فنجد أن المجتمع يكيل للجنسين بمكيالين مختلفين. فالمخيال العربي بما هو محدد لذاك التونسي يضع الزواج حدا لمطامح المرأة، بينما يكون عتبة دخول الدنيا بالنسبة للرجل. و علاقات المرأة المتعددة عهر و ان لم يكن فيها ما يوصف بالعهر، بينما علاقات الرجل المتعددة فحولة. سيجارة بيد المرأة تسقط سمعتها لسجّين، و أخرى بيد الرجل، تمرّ عليها الأعين مرور الكرام. و لعل أشد تجليات الشيزوفرانيا (انفصام الشخصية) التونسية الموسومة بوسام الرجعية المسبوك بالطمي، مشهد لطالما استوقفني بالتحليل و النقاش: فتى و فتاة يتبادلان القبل على مرأى و مسمع من العامة. في أي مكان آخر هو احتفاء بالحب و الجمال و الولادة الجديدة. أما في حضيض مصب القاذورات الفكري الذي نطلق عليه اصطلاحا اسم المجتمع التونسي المنفتح و المتسامح – في سياق واحد تلاحم فتخشب – الرجال يباركون مقدرة ذاك الكازانوفا و يحتقرون عهر ذات الراية الحمراء تلك. و النساء لا يلقين بالا سوى لفحولة شمشون الجبار و دناءة شيطانة الجنس تلك.
تكونت مما سبق لدي قناعة بأن لكل مجتمع حريمه. حريم السلاطين في قصورهم و حريمنا في عقولنا. كما داء السلاطين في بطونهم و دائنا في ما تدلى بين أفخاذنا. فإن كانت ثقافة أمة تنحصر تحت الحزام، فاقرأ عليها مني فاتحة الكتاب و اقرئها السلام.

نشرت هذه المقالة و الصورة المرفقة بتاريخ 26 جانفي 2015 في المعلقة (مجلة حائطية اسبوعية كانت تصدر عن منتدى الحقوقيين بكلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة و قد كنت رئيس تحريرها)