التمثل الرمزي للثدي في التاريخ الإنساني في مختلف الثقافات المتعايشة و المتلاقحة و المتعاقبة يشكل مرآة للنظرة المجتمعية لمفاهيم الأنوثة و الخصوبة و الحياة و حتى الموت.
ثم كان التمثال الاغريقي ذا الصدر الواحد
للمحاربة الأمازونية في تمثل يتصادم مع سابقيه للعدوانية. و ما تسمية أمزون إلا
كلمة اغريقية من جزأين: أما الأولى ف "أ" و التي تعني بدون و من ثم
"مزون" التي تعني صدر في اشارة للأسطورة التي تقول بانتزاع المحاربات لأحد
الثديين ليتمكنن من شد القوس بشكل فعال و أما الثدي الآخر فلا يرعى غلا المواليد
الإناث فيما يتم التخلص من الذكور.
و على كل حال لم يكن الثدي إلا إلى زمن قريب
ذا معنى جنسي ففي افريقيا لم تكن النساء تعبأن للمتفرجين و كن و لازلن في بعض
المناطق يتركن صدورهن بلا تغطية. حتى في بريطانيا كانت قد انتشرت موضة تعرية
الصدور بشكل دفع الملك هنري الثامن الى التشكي و فرض تغطية الصدور معتبرا أن في
ذلك احتراما للآباء و الازواج ملاك الأراضي غير التاريخ اثبت في ما بعد أن السبب
الحقيقي هو ترضية عشيقته آن بولين التي كانت ذات ثديين ضامرين نسبيا. في ضل حكم
ابنتها اليزابيث الأولى برزت ظاهرة تثدي الرجال فكان بروز الثندؤة – تسمية ثدي
الرجل – بادرة تقدير و اجلال للملكة التي تقوم بعمل الرجال.
في فرنسا قادت الحرية الشعب في لوحة دو
لاكروا رافعة اللواء و عارية الثدي متجاوزة جثث الشهداء. ليس الأمر بمنأى عن
الديانات المتعاقبة كما يعتقد البعض. فالصورة القاتمة لجسد الأنثى و تكالب التكالب
نحو مداراة دنسه المزعوم تحت الخرق و اللحف لم تأت مع الأديان. ففي المسيحية الثدي
ليس إلا منبعا من منابع الحياة و همزة وصل بين الرضيع و الأم. فالمسيح حين ولد
التقم حلمة دونا ماريا أو مريم العذراء التي قربتها منه لينهل منها و تنهل منها
معه ضمنا كل النفوس الضائعة و التواقة لرابط مع الرب و قد بدا ذلك جليا في أعمال عصر
النهضة. ذلك قبل أن تلتحف الراهبات السواد و تذقن أنفسهن صنوف العذاب و تظهر في
القرون الوسطى كماشة الثدي و جماعة الأوبوس داي و ينحدر الرمز السامي الى الحضيض
فيحل محل رابط الامومة و رابط الربوبية المقدسة مفهوم الخطيئة و الدنس و الطهارة.
الامر الذي جعل الكنيسة تحرق النساء عاريات الصدور بشبهة الهرطقة و ممارسة السحر.
جاء الاسلام بمفهوم العورة الذي استغل بشكل
فاحش لقمع النساء و هضم حقوقهن. غير أن عورة الأمة كعورة الرجل. فهل في ذلك عز و
تحرر للأمة أم ذلة للرجل و عز للمرأة الحرة؟ هذا جدل تغلب عليه السفسطائية كثير
الأحيان فأفضل عدم الخوض فيه غير أن الأدب لا أراه يعبأ للعورة بفهمنا الحالي لها.
فيقول عمرو بن كلثوم:
وثدياً مثل حقِ العاجِ
رخصاً ... حصاناً من أكفِ اللامسينا
وقال الحسن بن التختاخ
في ثديين:
أو كأنصافِ حقتين من العا
... جِ لقد أشبهتْ حقاً ثديا
وقال بشار:
والثديُ تحسبه وسنانُ أو
كسلا ... وقد تمايل ميلاً غير منكسرِ
وقال ابن الرومي:
صدور فوقهنَّ حقاقُ عاجٍ
... ودرٌ زانهُ حسنُ اتساق
يقولُ القائلون إذا رأوهُ
... أهذا الدر من هذي الحقاقِ
ومما يستحسن في وصف الثدي
قول المهلبي الوزير:
أقاتلتي بانكسار الجفون
... ومستوفزين على معصر
كحقين من لب كافورةٍ
... برأسيهما نقطتا عنبر
غير أن جنون الدغمائية
على العقول التي أحقب عنها العلم دره و تجوسقها عن ما دون الفتاوى المخلولقة و
التي أوصدت كل باب للتنفس و التعقل و التفكر و الحياة جعل معشر المسلمين إلى
الساعة يغرقون في السواد و يعتنقون ثقافة الموت و يتحججون بالعورة و عوراتهم قابعة
بين المسمعين.
نشرت هذه المقالة و الصورة المرفقة بتاريخ 26 أكتوبر 2015 في المعلقة (مجلة حائطية اسبوعية كانت تصدر عن منتدى الحقوقيين بكلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة و قد كنت رئيس تحريرها)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق